ما هي اسباب طول مدة الفتح الاسلامي لبلاد المغرب
ما هي اسباب طول مدة الفتح الاسلامي لبلاد المغرب
فعن التيار الأول يمكن أن نستحضر نموذج غرومباوم (1953 ص12) الذي ذهب إلى أن الدين كان بالنسبة للإسلام والمسيحية «في غالب الأمر العامل الأكبر في تحديد تخوم تلك الكتل». والإسلام في رأي هذا التيار يجب ربطه بشخصية النبي، وعزله عن الظروف التي أحاطت به «وبالتالي فإن الربط بين شخصية النبي محمد والتوسع الإسلامي يعتبر أمرا جليا» (بلانهول1988 ص18) على اعتبار أن الإسلام، شأنه شأن المسيحية، (عبد الهادي عبد الرحمان1988 ص17) حمل فكرة العالمية (دين يطمح إلى التوتاليتارية) مما يحتم على أتباعه نشره في مختلف المناطق، مما ينتهي بنا إلى فكرة التوسع. وهو أمر لا يوافق عليه برنارد لويس (ص31) الذي زعم أنه في السنوات الأولى للخلافة تدفق عدد كبير من العرب عبر خطوط الدفاع المنهارة للإمبراطوريات المجاورة، لذلك «فإن أحد العوامل الرئيسية التي حثت العرب على الغزو كان ضغط السكان المتزايد في شبه جزيرة العرب القاحلة»، وتفسير ذلك في رأي هؤلاء (بلانهول ص14…)، أن البادية تتميز بمناخها الجاف والصحي، وكذا تباعد مساكن البدو عن بعضها البعض، مما يحفظها من كل وباء. وكان ابن خلدون أيضا قد لاحظ أهمية البيئة الصحراوية في التفوق الجسماني والأخلاقي للبدو على سكان الحواضر، لثلاثة أسباب:
1) التغذية الطبيعية واعتدال البدو في مأكلهم.
2) المناخ الصحي مقارنة مع مناخ الحاضرة الملوث.
3) التنقل الدائم للبدو يجعل أجسامهم في حركة دائمة.
لهذا فإن المجتمعات البدوية كانت تعرف دائما فائضا بشريا مهما، فإذا أضفنا لذلك أنها مجتمعات عنف وغزو وجدنا التفسير السليم للفتوحات الإسلامية. وقد تم إنجاز بعض الدراسات (بلانهول ص19) للدلالة على أن منطقة الشرق الأوسط عانت (بين 591 م و640 م) من سنوات متتالية من الجفاف، وهو ما دفع بالبدو في عملية توسع خارج نطاقها الأصلي (لاحظ أن الإسلام نجح في الحواضر أولا، والبدو/الأعراب كانوا أشد كفرا ونفاقا). فالفتح إذن كان هجرة ناتجة عن فائض السكان الذين انطلقوا بحثا عن موارد جديدة للعيش. لكن ما رأينا، والحالة هذه، في قول غوستاف لوبون (ص132) الذي سجل عكس ذلك تماما عندما كتب بأن سكان الأراضي المفتوحة «كانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتح يعد بإطعامهم»، فالظاهر إذن أنهم لم يكونوا بأحسن حالا من سكان الجزيرة؟ وما رأينا أيضا في تفسير موريس لومبار(1979 ص10) الذي يرجع سبب نجاح الفتوحات الإسلامية إلى سكان مدن المناطق المفتوحة الذين انضموا للفاتحين طلبا للحماية من «الفوضى والنهب الذي سببه البدو الرحل»؟
أما عن العامل الاقتصادي كمحرك لعملية الفتوحات فنسجله عند العديد من الدارسين، وعلى رأسهم فان فلوتن (1934 ص21) الذي رأى بأن الجشع والأنانية «لم يلبثا أن وجدا طريقهما إلى نفوس العرب واستوليا على قلوبهم لما كان يفاض عليهم من كل ناحية من النعيم والثراء، ذلك الثراء الذي لم يكن مألوفا لهم، والذي كان أقرب إلى فساد النفوس منه إلى تهذيب الأخلاق»، لذلك فإن ما يسميه المؤرخون العرب فتوح يزيد، لم يكن في الواقع «إلا ضربا من تلك الحملات التي يجردها قطاع الطرق على البلاد الامنة المطمئنة» (فان فلوتن ص23). وهو نفس المنحى الذي توجهه هاملتون جيب (1974 ص8) عندما اعتبر أن الفتوحات الإسلامية عملية توسعية هدفت قطف ثمار البلاد المفتوحة، وزكاه فان فلوتن (ص15…) مضيفا بأن الفاتحين لم يتوانوا عن إعمال السيف والعنف من أجل الغنيمة (فلوتن،الجابري1991 ص99/165) – تحت ضغط الفقر والجوع والحاجة – (رودنسون1974 ص34، بيضون1986 ص36، جولد تسيهر1920 ص123) هذه الغنيمة التي حركت جموع العرب نحو أفريقيا، حسب أندري جوليان (ص17)، ودفعتهم للقيام بعدة غزوات كسبوا منها غنائم عظمى (جوليان ص17، العروي1982 ص77).
فأما عن دور الهجرة في الفتوحات، فيمكن أن نقول بأنه كان للعرب، مبدئيا، ذلك الاستعداد النفسي لمغادرة موطنهم الأصلي (جزيرة العرب) للاستقرار بأي مكان يتم فتحه، شريطة ألا يتعارض مع مصالحهم الخاصة، وقد عبر عن ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص أحسن تعبير عندما قال: «لولا مالي بالحجاز لنزلت برقة، فما أعلم منزلا أسلم ولا أعزل منها» (البلاذري ص315)، بل إنهم اعتبروا بلاد المغرب “أرض هجرة” (أبو العرب1968 ص35).
وأما عن العاملين: الاقتصادي والديني ودورهما في الفتوحات، فقد كتب البلاذري يقول (ص149): «لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل مكة، والطائف، واليمن، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع. » فما الذي مكن العرب من تحطيم الإمبراطورية الفارسية وتقزيم الإمبراطورية البيزنطية؟ أو بصياغة أخرى: كيف تمكن العرب من تحقيق ما حققوه رغم ضعف مستواهم الحضاري/المادي إذاك؟ وبهذا السؤال نعود من جديد لأصل الإشكال: ما هو العامل الذي حرك الفتوحات الإسلامية ووجهها؟
لن نتسرع فنقول بأن الدين وحده، وحب الاستشهاد والجنة وأشياء أخرى… كان يختفي وراء هذه الانتصارات ويفسرها، فقبائل الهانز Huns الشرقية سبق لها أن دمرت الإمبراطورية الرومانية في القرن 5 م، وقبائل المغول والتتار قوضت الخلافة العباسية خلال القرن 13 م، رغم أن روما كانت أكثر حضارة من “الهانز” وبغداد كانت أرقى من “التتار”، ولا نعتقد أن جموع الهانز والتتار كانت تتحرك وفق عوامل دينية من نوع طلب الشهادة و”الدار الاخرة”، ذلك أن “الدار الدنيا” أيضا حاضرة في هذه الانتصارات، وهذا يقودنا للتساؤل: هل العامل الاقتصادي هو المحرك الحقيقي للفتوحات الإسلامية؟
إن تفسير الفتوحات بالاقتصاد الصرف أمر نرفضه لعدة أسباب:
أولا: لقد بينت ردود قبيسي (1981 ص56…) على رودنسون، خاصة ما كتبه بعنوان: «في أن الجوع والفقر مفهومان نسبيا» وكذا «في أن الظروف الطبيعية لم تكن سيئة للغاية» (ص61…): أن ظروف العرب مع مجيء الإسلام لم تكن سيئة فعلا، أو على الأقل ليست بذلك السوء الذي صوره بعضهم: (برنارد لويس، فان فلوتن، مكسيم رودنسون، إبراهيم بيضون…)
ثانيا) إن الكتابات التاريخية المتعلقة بالقرن 7 م/ 1ه، لا تسجل أي اكتشافات طبية أو تحسن على مستوى التغذية يسمح لنا بالقول بأن جزيرة العرب قد عرفت انفجارا ديموغرافيا شكل عبء إضافيا على الإمكانيات الغذائية التي كانت توفرها البيئة قبل ذلك، كما أن المنطقة لم تعرف تقلبات مناخية كبرى تجعل الظروف أشد سوء مما كانت عليه من قبل، فيضطر السكان بالتالي إلى مغادرة أرضهم والبحث عن مجال حيوي اخر، والشيء الوحيد الذي تسجله المصادر، وفي مقدمتها الطبري (ج2 ص487 وص507…)، أن خلافة عمر – التي نشطت فيها الفتوحات – عرفت سنوات متلاحقة للجفاف ووباء الطاعون أودى بحياة العديد من سكان الجزيرة والعراق والشام ومصر… مما يعني أن المناطق المفترض افتتاحها (العراق، الشام، مصر) أيضا عانت من نفس الكوارث.
ثالثا) لاحظ بيير كلاستر (1985 ص33) في دراسته للحرب في المجتمعات البدائية، أنه مقابل “المجد” الذي يلتصق بالمحارب، والذي قد ينطوي على احتمال تحوله إلى قوة ضاغطة وبالتالي إلى ممارسة السيطرة على الاخرين، أنه محكوم على المحارب الحقيقي بالموت، لذلك فالمجد والاحترام اللذان يقدمان له، يدفع ثمنهما من موته، وهكذا فالمجتمع هو ضد المحارب بقدر ما هو من أجل الحرب: فكيف ينتظر المحارب/العربي الثروة من الحرب إذا كان لا يضمن أصلا بقاءه حيا؟
رابعا) لو كان الاقتصاد أو قسوة الظروف الطبيعية هي التي قذفت بالعرب لبلاد المغرب، لكان “الغزو” العربي من نوع غزوات الهانز أو التتار، أو في أحسن تقدير من نوع الاحتلال الروماني والبيزنطي… في حين أننا نلاحظ أنه اختلف عن هذه الأنواع جميعا اختلافا جذريا: فالوافدون العرب لم يأتوا كلهم بصفة الغزاة العسكريين: فالخوارج والأدارسة مثلا جاؤوا إلى المنطقة فرارا من بطش الخلافة بالمشرق، ونجحوا في تكوين دول في بلاد المغرب، مما يعني أنهم لاقوا تجاوبا مع السكان الأصليين للمنطقة.
كيف يمكن إذن وضع تركيب مرض لكل هذه العوامل، يمكننا أن نبرر به سبب ونجاح الفتوحات الإسلامية؟
إشكال سنحاول الإجابة عنه في الباب الثاني من هذا العمل.